فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.
اعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهيًا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع، ويحتمل أن يكون نهيًا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول: قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، والثاني: قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في {لا يُضَارَّ} أحدهما: أن يكون أصله لا يضارر، بكسر الراء الأولى، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار.
والثاني: أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة، وهو قوله: {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه {وَلاَ يضارر} بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس {وَلاَ يضارر} بالإظهار والفتح، واختار الزجاج القول الأول، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} قال: وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والإثم والفاسق متقاربان، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطابًا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكم، وإذا كان هذا خطابًا للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أقوال:
الأوّل لا يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها.
قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنّ المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد.
{وَلاَ يُضَارَّ} على هذين القولين أصله يُضَارِرَ بكسر الراء، ثم وقع الإدْغام، وفتحت الراء في الجزم لخفّة الفتحة.
قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لأن بعده {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُيسُوقٌ بِكُمْ} فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يُقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدًا أن يشهد وهو مشغول. وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يُضارِرَ بكسر الراء والأولى.
وقال مجاهد والضّحاك وطاوس والسدّيّ وروي عن ابن عباس: معنى الآية: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} بأن يُدعَى الشاهدُ إلى الشهادة والكاتبُ إلى الكتْب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال: خالفتما أمر الله، ونحو هذا من القول فيضرّ بهما.
وأصل {يُضارّ} على هذا يضاررَ بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود {يضارَر} بفتح الراء الأولى؛ فنهى الله سبحانه عن هذا؛ لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما.
ولفظ المضارة؛ إذْ هو من اثنين، يقتضي هذه المعاني.
والكاتب والشهيد على القولين الأوّلين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}:

.قال الفخر:

فيه وجهان أحدهما: يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى: فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار.
والثاني: أنه عام في جميع التكليف، والمعنى: وإن تفعلوا شيئًا مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئًا مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ} يعني المضارّة، {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي معصية؛ عن سفيان الثوريّ.
فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤْذِي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق.
وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله.
وقوله: {بِكُمْ} تقديره فسوقٌ حالٌّ بكم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ}:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {واتقوا الله} يعني فيما حذر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عامًا، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه.
ثم قال: {وَيُعَلّمُكُمُ الله} والمعنى: أنه يعلمكم ما يكون إرشادًا واحتياطًا في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادًا في أمر الدين {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالمًا بجميع مصالح الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يلقى إليه؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانًا، أي فيْصَلا يفصل به بين الحق والباطل؛ ومنه قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]. والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق.
وقوله: {ويعلمكم الله} تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم.
وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح.
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث: لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي:
اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ ** واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا

واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به ** لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبدا

فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها، ومَا ولدته، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها.
هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل.
وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في دلائل الإعجاز، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل: ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال: كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها:
أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد ** على ما مضى أم حسْرة تتجدّد

وقال لي: تأمّلها، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله:
بجَهْلٍ كجهل السيففِ والسيفُ منتضًى ** وحِلْمٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ

فقلت: لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرًّا من تركه؛ فقال: إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات، قال الصاحب: لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب: إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: {وبالحق أنزلته وبالحق نزل} [الإسراء: 105] وقوله: {قل هو الله أحد الله الصمد} [الصمد: 1، 2] عَمَل لولاه لم يكن.
وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله:
فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى

حتى قيل: لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى، ثم قال: إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد:
لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه ** بمَفرِقِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا

كان الواجب أن يقول: قلت له مرحبًا، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيرًا والقصد بالتكرير التفخيم.
واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر، كما تقدّم في بيتي الحماسة: اللؤم أكرم من وبر إلخ.
وقد وقع التكرير متعاقبًا في قوله تعالى في سورة آل عمران [78]: {وإن منهم لفريقًا يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير. اهـ.

.قال أبو حيان:

كثيرًا ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة، من الفقه وغيره، إذا ذكر له العلم، والاشتغال به، قالوا: قال الله: واتقوا الله ويعلمكم الله، ومن أين تعرف التقوى؟ وهل تعرف إلاَّ بالعلم؟. اهـ.